ضوابط الاسعار والتضخم.
خلال فترة التضخم المرتفع وارتفاع أسعار السلع الأساسية. يظهر السؤال عما إذا كان ينبغي للحكومات أن تنفذ ضوابط على الاسعار. يعارض خبراء الاقتصاد من التيار السائد هذه الفكرة بشدة. مشيرين إلى مخاوف بشأن تشوهات السوق. والنقص. والفعالية المؤقتة.
ويظهر صناع السياسات أيضا القليل من الحماس لضوابط الأسعار. ويفضلون التدابير المستهدفة أو المؤقتة بدلا من ذلك. في حين تم استخدام ضوابط الاسعار في الماضي. إلا أن نجاحها كان دائماً موضع شك. في الوقت الحالي. هناك ضوابط محدودة على الاسعار. لكن الاعتقاد السائد هو أنها ليست الحل المثالي لمعالجة التضخم.
مما سبق ممكن مناقشة التساؤلات التالية.
التساؤل الأول: ما هي آثار ضوابط الأسعار على الاقتصاد؟
في حال كانت ضوابط الأسعار قد أثبتت فعاليتها في إدارة التضخم في أمثلة واقعية لبلدان قامت بتطبيقها. باستخدام أحد هذه الأمثلة. ما هي آثار هذه الضوابط على الاقتصاد؟
على مر التاريخ. لم تكن ضوابط الأسعار دائماً فعالة في إدارة التضخم. وكانت تواجه تحديات كبيرة. قد تكون هناك أمثلة مختلفة على تطبيق ضوابط الأسعار في بعض البلدان. لكن النتائج تباينت ولم تكن دائماً إيجابية.
مثال أول – الولايات المتحدة.
من بين الأمثلة التي يمكن الرجوع إليها. يمكن ذكر أوائل فترة السبعينيات في الولايات المتحدة حيث تم تطبيق ضوابط على الأسعار والأجور. وفي ذلك الوقت. ارتفع التضخم بشكل جنوني حيث بلغ نحو 14% في عام 1980 بعد تقلبات شديدة (شتريك، 2017، ص61). ولكن ضوابط الأسعار لم تحقق النجاح المتوقع. أدت هذه السياسات إلى زيادة في الطلب على السلع والخدمات بينما تقلصت الإمدادات. مما أدى إلى ظهور فجوات في السوق وتشوهات اقتصادية.
وبالجهة المقابلة يمكن اعتبار الصين مثال لبلد نجح في تحقيق نمو اقتصادي قوي دون اللجوء إلى ضوابط الأسعار. حيث اعتمدت الصين بدلاً من ذلك على إصلاحات هيكلية وفتح اقتصادها للسوق العالمية. مما دفع في تحفيز التنافس وزيادة الإنتاج. لذا يمكن القول على الرغم من وجود بعض التقلبات. إلا أن الاقتصاد الصيني حقق نمواً قوياً دون الحاجة إلى ضوابط الأسعار.
مثال ثاني – زيمبابوي.
يمكن استخدام زيمبابوي كمثال على تحديات ومشكلات ناجمة عن استخدام ضوابط الاسعار والتضخم العالي. في الفترة بين أوائل العقد 2000 وما بعده. حيث شهدت زيمبابوي تضخمًا هائلًا وانهيارًا اقتصاديًا. وكانت هناك محاولات فاشلة لتطبيق سياسات ضوابط الأسعار.
وقد كان النظام الاقتصادي في زيمبابوي في ورطة قبل بداية فترة التضخم المفرط في عام 2007. حيث بلغ التضخم السنوي فيها معدل 47% في عام 1998. وتابع المؤشر في الهبوط حتى بدأ التضخم المفرط. (أرقام، 2024 يناير 28).
في محاولة لتحقيق العدالة الاقتصادية والتحكم في التضخم. قامت حكومة زيمبابوي بتحديد أسعار السلع والخدمات وحدود الأجور. ولكن هذه السياسات أسفرت عن تشوهات هائلة في السوق. حيث شهدت السلع نقصاً هائلاً وحاداً. وظهرت فجوات في الإمدادات. واختلال التوازن بين العرض والطلب على سلع البلاد. مما تسبب في تفاقم الأزمة الاقتصادية.
في ذلك الوقت. اضطرت زيمبابوي إلى طباعة كميات كبيرة من النقد لتمويل الانفاق الحكومي. مما أدى إلى تفاقم التضخم بشكل مدمر. في عام 2008. وصلت نسبة التضخم في زيمبابوي إلى مستويات فلكية تجاوزت المليارات في المئة. فقد كان معدل التضخم اليومي المكافئ 98% (أرقام، 2024 يناير 28). مما تسبب في انهيار العملة المحلية وتدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وذلك ساهم بدوره في تضخم مفرط.
هذا يظهر النتائج العكسية لتطبيق سياسات ضوابط الأسعار وتفاقم الأزمات الاقتصادية. إذا لم تُنفذ تلك السياسات بعناية وتوازن.
بناءً على هذه الأمثلة. يظهر أن فعالية ضوابط الأسعار قد تعتمد على السياق الاقتصادي الخاص بكل بلد. وعلى كيفية تنفيذ هذه السياسات. فتحقيق استقرار الأسعار يعتبر هدف محوري للسياسات الاقتصادية. تجنباً لحدوث التضخم والتي تسعى كل بلد لمحاربته. وبالتالي فإن مسؤولية الدولة ان تقوم باحتواء تقلبات مستوى الاسعار. لأن عدم استقرار الأسعار يسبب في حدوث هزات من خلال حدوث التضخم والكساد. ومنه تتدهور قيمة العملة عند التضخم. وتسود البطالة عند الكساد (قويدر، 2013، ص149).
قد تكون هناك طرق أخرى لمعالجة التضخم بشكل فعال. مثل تحفيز الإنتاج وتعزيز الفعالية الاقتصادية بشكل عام.
التساؤل الثاني. ماهي البدائل الناتجة عن ضوابط الأسعار هذه في سياق تشوهات السوق. مثل النقص أو الفائض.
تطبيق ضوابط الأسعار يمكن أن يؤدي إلى تشوهات في السوق تتمثل في النقص أو الفائض. وهناك بدائل محتملة لتلك السياسات التي يمكن أن تكون أكثر فعالية في تحقيق التوازن الاقتصادي. إليك شرح للبدائل الممكنة:
1. تحفيز الإنتاج.
بدلاً من تحديد أسعار السلع والخدمات. يمكن للحكومة تحفيز زيادة الإنتاج وتحسين الإمدادات. تعزيز الإنتاج المحلي والزراعة يمكن أن يساعد في تقليل الاعتماد على الواردات. ويقلل من فرص حدوث نقص في الموارد.
يمكن تحقيق ذلك من خلال تشجيع الاستثمارات في البنية التحتية. وتوفير مساعدات للشركات الصغيرة لزيادة الإنتاج. وتعزيز التكنولوجيا لتحسين الكفاءة. كما يمكن للدولة العمل على تقديم المساعدات لبعض النشاطات بهدف تسهيل عملية انتقال عناصر الإنتاج إليها. والهدف الأساسي هو علاج ما فشل السوق في تحقيقه ((قويدر، 2013، ص147).
2. سياسات نقدية فعالة.
تنظيم السياسات النقدية يمكن أن يكون وسيلة فعّالة للتحكم في التضخم دون اللجوء إلى ضوابط الأسعار. وتعرف بسياسة استهداف التضخم. وهو نظام السياسة النقدية. ويتميز بالإعلان العام عن الهدف الكمي او الرقمي أو الرسمي لمعدل التضخم مدة زمنية واحدة أو أكثر.
مع الاعتراف بشكل علني ان استقرار التضخم على المدى الطويل هو الهدف الرئيسي للسياسة النقدية. وهذا يمثل أسلوب جديد لإدارة السياسة النقدية (بشبشي ومجلج، 2016، ص44).
فالبنوك المركزية يمكن أن تستخدم أدوات مثل تغيير معدلات الفائدة لضبط الكمية النقدية في الاقتصاد. فالبنك المركزي هو السلطة النقدية الوحيدة. التي تملك الحق في تغيير سعر الفائدة بهدف امتصاص أكبر قدر من السيولة الموجودة في السوق. وبنفس الوقت الاحتفاظ بها في البنك المركزي (الموسوي، 1993، ص33).
من خلال التأثير على سلوك الاقتراض والانفاق للمستهلكين. فعندما يخفض البنك المركزي سعر الفائدة يسهل الاقتراض على المستهلك. لأن الاقتراض يصبح أرخص. وبالتالي يؤدي لزيادة الإنفاق على المستهلك. مما يحفز من النمو الاقتصادي (دحان وسلوكي، 2017، ص37).
3. تعزيز التنافسية.
تعزيز بيئة الأعمال وتشجيع على التنافس يمكن أن يقوي الديناميات السوقية. إذا كان هناك منافسة أكبر بين الشركات. فإن ذلك يعزز الكفاءة. ويقلل من احتمال حدوث تشوهات في السوق.
حيث تلعب آلية السوق الحر في حال ظروف المنافسة الكاملة دورها في نجاح كفاءة تخصيص الموارد. عند توافر بعض الشروط مثل جميع السلع خاصة وليست عامة. عدم وجود حالات من الاحتكار.
4. تشجيع الاستثمارات وتحسين البنية التحتية وتحفيز النمو الاقتصادي.
تشجيع استثمارات في البنية التحتية كالنقل والاتصالات وتحسين اللوجستيات والبنية التحتية. يمكن أن تزيد من كفاءة التوزيع وتقليل فجوات الإمداد. مما يقلل من فرص حدوث نقص في السلع.
وبالتالي تنشأ بيئة مستقرة اقتصادياً من خلال التوجه نحو تحقيق استقرار للأسعار على المدى الطويل. والإعلان المستمر عن الأهداف بصورة شفافة مما يخلق الثقة بين المستثمرين والدولة. وبالتالي تحقيق نمو اقتصادي بصورة إيجابية (بوسفط وجرفي، 2021، ص57).
في النهاية. يعتبر تحقيق توازن بين العوامل المختلفة واستخدام سياسات اقتصادية متعددة الأوجه. هو الطريق الأمثل لتجنب تشوهات السوق والحفاظ على استقرار الاقتصاد.
ما هي الاستراتيجيات المبتكرة في البلدان الأخرى لإدارة ارتفاع الأسعار والتضخم مع الحفاظ على كفاءة السوق.
هناك العديد من المناهج البديلة والاستراتيجيات المبتكرة التي يمكن استخدامها لإدارة ارتفاع الأسعار والتضخم دون اللجوء إلى ضوابط الأسعار. من بين هذه الاستراتيجيات:
1-التحول الأخضر.
الاستثمار في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا البيئية يمكن أن يساعد في تحسين الاستدامة وتقليل التكلفة البيئية. وبالتالي الحد من الضغط على الأسعار. وبحلول عام 2030 سيعود الفضل لقانون خفض التضخم الأمريكي. وستنمو الإضافات السنوية للطاقات المتجددة الشمسية والرياحية في الولايات المتحدة الامريكية مرتين ونصف عن مستويات اليوم.
بينما ستصل مبيعات السيارات الكهربائية لما يزيد عن سبعة أضعاف. مع استمرار الأهداف الجديدة لتحفيز البناء الهائل للطاقة المستدامة والنظيفة في الصين.
فضلاً عن انتشار مصادر الطاقة المتجددة في الاتحاد الأوروبي لخفض الطلب على النفط والغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي بنسبة تصل 20% هذا العقد. بينما ينخفض الطلب على الفحم بنسبة 50% (ملخص تنفيذي، 2022، ص5).
2-التجارة الدولية.
التفاعل بشكل فعّال في الأسواق العالمية يمكن أن يوفر فرصاً للحصول على سلع بتكلفة أقل. مما يساهم في تقليل ارتفاع الأسعار المحلية. حيث تؤدي التجارة الدولية دوراً كبيراً في الحد من تقلبات الأسعار المحلية. (fao،2011، ص35).
3-سياسات تحفيزية مستهدفة.
- استخدام سياسات تحفيزية مستهدفة تشجع على الاستثمار في القطاعات الحيوية والمبتكرة. يمكن أن يسهم في تعزيز الإنتاج وتحسين الكفاءة.
- الاستثمار في تحسين بنية التوريد واللوجستيات يمكن أن يقلل من تكلفة النقل ويحسن توزيع السلع. مما يقلل من احتمال حدوث نقص.
4-تعزيز التعليم والتدريب والتكنولوجيا والابتكار.
- تطوير مهارات القوى العاملة وتعزيز التعليم والتدريب. يمكن أن يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتحسين الكفاءة في مختلف القطاعات الاقتصادية.
- استخدام التكنولوجيا لتحسين الكفاءة في عمليات الإنتاج وتوزيع السلع. يمكن أن يسهم في تقليل التكاليف والتأثير السلبي لارتفاع الأسعار.
5-سياسات نقدية ومالية حذرة.
- اتباع سياسات نقدية ومالية حذرة للحفاظ على استقرار العملة وتجنب تضخم غير المضبوط.
في الختام إن تحقيق التوازن بين هذه الاستراتيجيات. يتطلب رؤية استراتيجية شاملة وتعاوناً فعّالاً بين القطاعين العام والخاص. وكذلك الشراكة مع المجتمع الدولي.
المراجع.
- أرقام. (2024 يناير 28). أسوأ حالات التضخم المفرط عبر التاريخ. موقع أرقام. تم الاسترجاع من الرابط https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1699726 .
- بشبشي، وليد ومجلخ، سليم. (2016). تحديات السياسة النقدية باستهداف التضخم في الجزائر ومدى تأثره بالمتغيرات الخارجية والأزمة العالمية. حوليات جامعة الجزائر 1. العدد30. الجزء 2. قالمة.
- بوسفط، صباح وجرفي، فاطمة الزهراء. (2021). السياسة النقدية ودورها في استهداف معدلات التضخم في الجزائر. رسالة ماستر أكاديمي في العلوم الاقتصادية. تخصص اقتصاد نقدي وبنكي. كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير. جامعة محمد الصديق بن يحي – جيجل.
- دحان، كنزة وسلوكي، كريمة. (2017). فعالية السياسة النقدية في معالجة التضخم – دراسة حالة الجزائر خلال الفترة 2000-2015. رسالة ماجستير في العلوم الاقتصادية. تخصص اقتصاد نقدي وبنكي. كلية العلوم الاقتصادية والتسيير وعلوم تجارية. جامعة أحمد دراية ادرار. الجزائر.
- شتريك، فولفجانج. (2017). شراء الوقت: الأزمة المؤجلة للرأسمالية الديموقراطية. ترجمة علا عادل. ط1. الجيزة. مصر: دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات.
- قويدر، معيزي. (2013). تدخل الدلة في النشاط الاقتصادي في ظل اقتصاد السوق. العدد8. جامعة البليدة. الجزائر: مجلة الاقتصاد الجديد.
- موسوي، ضياء مجيد. (1993). الإصلاح النقدي. الجزائر: دار الفكر.
- ملخص تنفيذي. (2022). ملف pdf. تم الاسترجاع من الرابط .https://iea.blob.core.windows.net/assets/4b6fde22-3e5c-4799-a944-5cc139955b2c/WEO2022_ES_Arabic.pdf.
- Fao. (2011).حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم. تم الاسترجاع من الرابط https://www.fao.org/3/i2330a/i2330a05.pdf..